تكون ديمقراطيا هو ان تقرن افعالك دوما بالاعتراف بانك في مجتمع غير ديمقراطي، هذا مايقوله جاك دريدا اعترافا منه بان بناء الديمقراطية يتم في توتر فهو حرب معلنة ومقاومة عنيدة
ذلك ان الوضع الديمقراطي هو دوما وضع يائس وتحقق الديمقراطية مقرون على الدوام بالشعور باستحالة التحقق او على الاقل بصعوبته وعسره ، واذا كان دريدا يرى بان عدم الاكتمال هو الغذاء الحقيقي للديمقراطية فلا عجب ان نلحظ تاريخيا اقتران بناء الديمقراطية مع ازمة الديمقراطية ...
وبالعودة الى مفهوم الديمقراطية فهو يأخذ اشكالا متعددة ابتداء من انحدارها الفلسفي اليوناني باعتبارها سلطة الشعب استنادا الى الكلمتين اللتين تتكون منهما وهما (demo) أي الشعب و(kratia) أي السلطة مايعني ان الشعب يجب ان يختار السلطة التي تحكمه، ومرورا بتطورها بعد انقسام العالم الى معسكرين رأسمالي وشيوعي ثم بروز العالم الثالث وتنوع صورالديمقراطية بناء على ذلك وصولا الى ارتباطها بفكرة العلمانية في العالم المعاصر …
رغم ذلك يلخص الكاتب رفيق عبد السلام في كتابه (فن العلمانية والدين والديمقراطية ) الديمقراطية بكونها آليات اجرائية وظيفية ، قد تصلح لعلاج معضلة الاستبداد والتسلط السياسي ، فهي ليست عقيدة صارمة منازعة للعقائد والاديان ، ولاحلا سحريا يتجاوز سنن العمران وقوانين الاجتماع السياسي .. ومن هنا ، تظل الديمقراطية قابلة للتعديل والتغيير والاستدراك وفق مقتضيات الاجتماع السياسي.
ويتناقض هذا التعريف مع الاهتمام قديما بالقيم الديمقراطية الاساسية والدفاع عنها باعتبارها الملاذ الذي الذي يتماسك به المجتمع لاسيما بعد ان ادت هذه القيم ذات يوم الى احياء وتحريك النضال ضد الفاشية والنازية وباسمها تفككت القوى الاستعمارية واكتسبت الاقليات المساواة والكرامة ، فالديمقراطية وقتذاك كانت اقل تجريدا مما هي عليه الآن إذ اكسبها التطور التاريخي مفهوما آخر باعتبارها سلاحا ذا حدين، اذ بامكان أي حاكم طاغية او دكتاتور توظيف هذا المفهوم او ادخال بعض التعديلات المناسبة –بنظره –عليه ليتناسب مع اهوائه ورغباته مع بقاء العنوان الرئيسي لورقة عمله –وهو الديمقراطية – لينجو بذلك من لوم اللائمين ولن تكون –بزعمه طبعا –اية حجة بيد معارضيه يمكنهم من خلالها الاعتراض على تصرفاته او مقاضاته بها ..
اذن ، ماالاسس التي تساعد على ولادة ديمقراطية حقيقية ونموها وتطورها وبلوغها سن الرشد في دولة ما لتتسلم زمام امورها بنفسها وتتصرف بحرية بعيدا عن اية قيود او حدود ، ولكن ضمن اطار المنطق والعرف ..هل هي الحرية التي يرتبط مفهومها بالديمقراطية ارتباطا ازليا فلا يصبح لكلمة الديمقراطية معنى بدونها ام انه التطور الحضاري والفكري للبشر الذي يؤهلهم لتأسيس بيئة مناسبة لها، على اساس ان الحضارة هي بيئة صحية تعمل وتساعد على ولادة الديمقراطية من رحمها وماان يكبر جنينها حتى يمكنها تسليمه زمام الامور اقتناعا منها بان بقاءها مرهون ببقائه واستمراريته كما يرى الدكتور عباس صافي في دراسته المنشورة في العام 2007.؟....
في مايخص الحرية فأن من الصعوبة بمكان تحديد مفهوم لها نظرا للتباين المشهود في وجهات النظر المختلفة من حيث الاساس ن ولكنها بشكل عام تعني (تحقيق ذات الانسان وسعادته، وان يكون حرا في تسيير امور حياته) بينما يذهب آخرون الى انها ( التحررمن قهر الدولة واستبدادها ، والتوزيع العادل للثروة وتوفير فرص العمل لتامين الرفاهية للجميع )..والحقيقة قد تكون اكثر قبولا منذ اواسط القرن العشرين –بحسب الدكتور صبحي ناظم توفيق –فهو يحصر المفهوم في تلك (الحريات الاربع) التي اعلنها الرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت العام 1941 ، وقد حصرها في (حرية التعبير، حرية العبادة، التحررمن الحاجة ، والتحررمن الخوف )...اضافة الى الحريات الاساسية الملازمة لحقوق الانسان التي ينبغي ان يتمتع بها في كل زمان ومكان ، وقد سطرت بشكل عام في وثائق المنظمة الدولية في اواخر عقد الاربعينيات من القرن الماضي وتشمل :
*حرية المساواة امام القانون في الحقوق المدنية والسياسية *حرية التنقل داخل الوطن وخارجه *الحرية الدينية والمعتقدات من دون اخلال بالنظام العام *حرية التفكير وابداء الرأي قولا وكتابة وطباعة * الحرية السياسية في الترشيح والانتخاب *حق الملكية والعمل والتجارة والصناعة والزراعة يضاف الى ذلك بروز مصطلحات اخرى للحرية اكثر عمقا منها :
*حرية الاعلام *حرية التعبير دون عقاب *حرية التنظيم والاجتماع *حرية الدين *حرية التجارة من هذا العرض الموجز لمفهومي الحرية والديمقراطية ننطلق الى حقيقة وجود اكثر من وشيجة تربط بينهما بحيث لايمكن اتباع الديمقراطية اذا ما انعدمت الحرية او تحددت كثيرا ، بينما تكون الحرية منقوصة اذا لم تكن هناك ديمقراطية بمؤسساتها ونظمها وقوانينها ..
لذا فان الحرية لولم تكن متاحة للشعب فأنه لايقدر على اختيار سلطته الحاكمة ليسيطر من خلالها على امور دولته القائمة، ودليلنا على ذلك امثلة دامغة من التاريخ القريب قد تاتي على رأس قائمتها تلك الشعوب التي تعايشت مع الانظمة الشيوعية او الاشتراكية الماركسية التي تظاهرت بمؤسساتها ونظمها ولكنها كانت مستحوذة على رقاب مواطنيها الذين لم يكونوا - بفعل الارهاب والتسلط والقمع-سوى اجساد يعيشون بلا ارواح ، في حين كان كل مسؤوليهم وقادتهم يتمتعون برغيد العيش وسط قصور فارهة ..
كما ان للحرية مضامين متنوعة كما يرى الكاتب نجدت نصر الله في دراسته المنشورة في مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية إذ يمكن اعتبارها اساس المنظومات الفكرية والاخلاقية ،وبالرغم من تعدد اشكالها فان الحرية السياسية هي ام الحريات ومنها تتفرع بقية الاشكال كالحرية الاجتماعية والحرية الاقتصادية المرتسمة على خريطة المصالح الشعبية وهي فروع هامة وامتدادت اساسية تحتاج جميعها الى محددات اجتماعية في اطارها المكاني وفي سياقها الزمني عبر ديناميكية فاعلة تستدعي حاجة عاجلة الى بلورة آليات ديمقراطية يتم من خلالها انضاج عملية التحول من النظري الى العملي ومن الخيالي الى الواقعي ومن تراكمات الحاضر الى تحولات المستقبل ومن قيد الخوف وجحيمه الى نعيم الحرية وازدهارها.. ويقودنا هذا التحليل الى ان مفهومي الحرية والديمقراطية متلازمان ومتكاملان ولامجال لفصل احدهما عن الاخر فهما توأمان في بنية واحدة ، فالحرية هي جوهر كل شيء وهي المعطى الانساني الراسخ ، اما الديمقراطية فهي الشكل المعبر والترجمة البليغة لكل اناشيد الحرية ،واذا كان جوهر الحرية ثابتا فان شكل الديمقراطية متحرك وهو في حركته لايخرج عن السياق ولايتصادم مع المضامين ولاينفصل عن الجوهر واذا حدث وتم الانفصال جزئيا او كليا وتم الخروج بعيدا عن حدود الدائرة فان المعادلة يصيبها التغير ويلحقها التلوث ويتحقق القول المأثور ( كم من الجرائم ترتكب باسمك ايتها الحرية...).
واذا كانت الحرية متلازمة مع الديمقراطية لأنها موجودة اصلا في الكينونة البشرية على اعتبار ان الانسان ولد حرا ، فالأمر مختلف بالنسبة لوعي الديمقراطية الذي لايكون عفويا بل يستند الى فكرة ( تصدير الوعي ) التي تحدث عنها محمد سيد رصاص في العدد (1181) من مجلة الحوار المتمدن ذلك ان الطبقات والفئات الاجتماعية لاتستطيع الوصول الى اكثر من الوعي العفوي من قبل (طليعة) او (نخبة ) فيما تفترض الديمقراطية وعي الفئات والطبقات الاجتماعية لمصالحها ، وبالتالي قدرتها الواعية على الاختيار ، عبرصندوق الاقتراع ،بين البرامج والسياسات المطروحة والمقدمة من التيارات والاحزاب ، في الضد والمع ،وفقا لمدى تطابق او تعارض هذه البرامج والسياسات مع مصالحها ، وتتحدد قوة التيار السياسي او ضعفه من خلال قدرته ، عبر صندوق الاقتراع ، على ملاقاة تلك المصالح من عدمها .. وبعد ان كانت فكرة الديمقراطية تعتمد على الايديولوجيات الشمولية ذات الطابع الشيوعي اللينيني والقومي والاسلامي ، ظهرت مفاهيم جديدة تنظم العلاقات بين السياسي والمجتمع ، بعيدا عن مفاهيم ( الجماهير ) و( الشعب ) و( النخب) لصالح مفاهيم ( المواطن ) و( المجتمع ) بكل مايحويه من طبقات وفئات ومهن وحرف وكتل ماطور العلاقة بين مفهوم الديمقراطية واجراءات تطبيقها او- بمعنى آخر-العلاقة بين الديمقراطية المفهومية والاجرائية ...
وكان مونتسكيو قد اعطى الديمقراطية اطارا سياسيا في كتابه ( روح الشرائع ) العام 1748 ، الا ان الديمقراطية لم تتحدد الارضية الفلسفية لها الا في العام 1781 مع كتاب كانط (نقد العقل المحض ) عندما بين بان المعرفة البشرية محددة ضمن دائرة المحسوسات ، وان الذات البشرية حسية خالصة على صعيد المعرفة ، مع اعتبار ان الدس الغيبيات هي مجالات قلبية وشعورية واخلاقية يجب تركها لذات الفرد ان تؤمن بها او لاتؤمن وكان هذا تاسيسا فلسفيا ل( العلمانية ) واكمل ذلك في كتابه (نقد العقل العملي ) العام 1788، ولكن الامرالاخير ماكان ممكنا ان يتم لولا تلك البذرة الفلسفية للديمقراطية التي اثبتها كتاب 1781 من حيث ان المعرفة البشرية ذات طابع فردي وانه لاتوجد معرفة "مطلقة " و " معطاة نهائيا " او " منجزة " او " كاملة " ..
واذا كان تطبيق هذه الفلسفة اجرائيا تم في التجربة الانكليزية وبعض التجارب الغربية فان الارتباط بين مفهومي الديمقراطية والعلمانية هو مايخيف الغرب حاليا عند محاولة تطبيقه في العالم العربي والاسلامي كما يرى عبد العزيز بالخاطر في دراسته المنشورة في مجلة الحوار المتمدن في عددها (2559) ،ذلك ان تطبيق الديمقراطية الاجرائية دون وجود او تطبيق لقيمها ومبادئها التي قامت عليها هناك في الغرب والتي ارتكزت عليها تلك الاجراءات ادى الى فوز التكتلات والمرجعيات الاولية السابقة والمتمثلة بالدين الاسلامي ، فماالذي يمكن ان يحمله تطبيق الديمقراطية الاجرائية من انتخابات وصناديق اقتراع مع وجود ارضية مختلفة في هذا العالم ، ولعل ماحصل في الجزائر في اول التسعينيات مثال واضح لما سيكون عليه الامر في حالة عدم توافق اساسي بين مفهوم العلمانية والديمقراطية كما فهمها وطبقها الغرب..سيكون الاكتساح كبيرا للقوى الاسلامية وللمد الاسلامي الجارف بعد فشل المشاريع السياسية الاخرى ، والغرب على ادراك كامل بهذا ، لذلك يشرع اليوم لتوطين مفهوم او مصطلح الديمقراطية من خلال ربطه بمفهوم العلمانية الملازم له والضروري لأنباته صحيا طبقا للمواصفات الغربية التاريخية . في ظل هذا الوضع يجد العالم العربي والاسلامي نفسه عاجزا من ايجاد البديل الخاص به بالرغم من طرح مفهوم الشورى الا انه لم يتفق على طرح آلية واضحة عصرية تاخذ بامتزاج الثقافات المعاصرة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ بعد سقوط الاسوار وتحطم الجدران وتآكل الحدود..
فالامة اليوم تتخبط بشكل هستيري بين مفاهيم مستوردة وتتبنى اشكالها وزينتها الخارجية بينما المضمون ينحو الى اولى درجات الاستبداد ..
وينبغي القول ان الديمقراطية نمت وتطورت هي واسسها الفكرية والنظرية وآلياتها العملية في ارض معينة وعلى خلفية ظروف تاريخية عاشتها المجتمعات المسيحية الغربية كما في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ، فكان لزاما ان نطرح هذا السؤال : هل كان بالأمكان ان تنمو الديمقراطية بنفس الاسس والاليات في ارض اخرى كارض المسلميـن وانطلاقا من قيمهم وحضارتهم ؟..
لقد اضحت بلدان العالم الثالث –على وجه الخصوص –امام ضغطيـن متقابلين: ضغط الواقع التنموي الصعب وما يفرزه مـن توترات وتفجرات داخلية، وضغط العولمة وماتجلبه من تحديات يصعب احتواؤها..
وهكذا بدت العديد من دول العالم الثالث وكانها تسير باتجاه تآكل مزدوج حيث تفقد استقرارها الداخلي وسيادتها الوطنية في آن معا ..
ولأن احسن وسيلة للحفاظ على النظام الديمقراطي هي اعـادة التفكيـر فيه وابتكار اشكال جديدة له وتطويرها بالاعتراف بالتعددية واستكشاف اشكال جديـدة للحقول الثقافية وحقوق الاقليات، وحول هذا الامـر يقول فوكوياما في كل العصور هناك اناس اجتازوا الخطى غير الاقتصادية وخاطروا بحياتهم واملاكهم للنضال من اجل الحقوق الديمقراطية فلاديمقراطية بدون ديمقراطيين أي بدون انسان ديمقراطي يرغب في الديمقراطية ويقوم بتطويعها وهو في الوقت نفسه يطوع من قبلها مانلاحظه اذن هو ان هذا النموذج الجديد لاينبغي ان يفرض من الخارج على المجتمع بل ان يتم الوصول اليه اجرائيا ،وفي عصرنا الذي اصبح فيه اعتناق فكرة مالابد من ان يكون مبنيا على الاقناع لابد ان تتسم المقولات بقوة الجذب داخل المجتمع وفي الفضاء الدولي الارحب وذلك من خلال بيان الحقائق ومواطن الجمال التي تتميز بها .
من هنا يصبح التطبيق الاجرائي بالغ الصعوبة لمفهوم الديمقراطية بمواجهة السلوك المتسم بالعنف والارهاب اولا ولأختلاف التجربة المحلية عن التجارب الغربية ثانيا ولغياب الحرية ثالثا ،لأنه في الحياة العملية قد يكون النظام السياسي في بلد معين ديمقراطيا وتكون الحرية فيه مقيدة بقيود عديدة خصوصا تلك التي يمكن اصطناعها بالوسائل غير المباشرة ، فالحرية كانت دائما مادة للتلاعب من قبل اولئك الذين يملكون السلطة والقوة ويسيطرون على وسائل الاعلام والتعليم ..الخ ..نخلص مما تقدم الى القول بان الحرية والديمقراطية لاتتحدان سلبيا فقط من خلال كثرة القيود على ممارستهما ، بل تتحددان ايجابيا من خلال النضال في سبيل تحققهما على الصعد كافة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا يكون من خلال تحقيق حقوق الانسان.
واذا كانت الديمقراطية الاجرائية تعاني من هشاشة عظامها في دول العالم المتقدمة احيانا ، فلابد ان عدم انشغال الفكـر السياسي العربي في فحص مفهوم ( الديمقراطية )وتحديده ، من خلال علاقته التضادية والتوافقيـة مع المفاهيم الاخرى ، او انخراطه في بحث الاسس الفلسفية لذلك المفهوم والآلية التاريخيـة لتشكله ، اقتصاديا واجتماعيا ومؤسساتيا ، يدل على ان المرحلة الانتقالية العـربية نحو( الديمقراطية) ستكـون طويلـة ومحفوفة بالصعاب.!!