مرتضى جمعة حسن السوداني
ظهر
مفهوم المجتمع المدني في أوربا في القرن السابع عشر في محاولة من البرجوازية الصاعدة
وقتها قطع الحبل القوي الذي يحمي المَلكيات المستبدة والتي تستمد شرعيتها من السـماء،و محاولة لمواجهة
الإديولوجية الدينية السائدة التي كانت تشكِّل الثقافة العضوية
لسلطة الإقطاع ووسيلة هيمنتها بالتالي يكون مفهوم الحكم المدني فكر مقاوم
للإديولوجية الدينية في محاولة من البورجوازية الصاعدة لبناء سـلطتها ودولتها
الجديدة .(
1)فقد
ولد هذا المفهوم من رحم التغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي مرت بها
المجتمعات الاوربية ابان الثورتين الصناعية والسياسية والايدولوجية خلال القرنين السابع والثامن عشر
كما اسهمت عوامل عدة في نشوء مفهوم المجتمع المدني في اوربا ويمكن اجمال هذه
العوامل فيما يلي :
*حركات
الاصلاح الديني البروتستانتي ضد السلطة الكنسية المطلقة .
*تطور
وسائل الانتاج بفضل الاختراعات العلمية “ قوة البخار “.
*تطور
وسائل الاتصال النقل البحري والبري بفضل الاختراعات الحديثة .
كل
ذلك كان له الاثر الكبير في في نضج فكرة بل وواقع المجتمع المدني في اوربا لذا يمكن ان
نورد تعريفات عدة لمفهوم المجتمع المدني من خلال قراءتنا للاحداث التاريخية والنظريات التي طرحت على
المستوى الفلسفي والسياسي والتي ناقشت نشوء وتطور المجتمع المدني .ويمكن
تعريف المجتمع المدني بوصفه "المجال البعيد عن سلطة الدولة non-state-sphere والذي يتضمن
بدوره تشكيلة من المؤسسات الاجتماعية تتنظم بطريقة ديمقراطية
وتنطوي على ضمانات شرعية”( 2).كما ويمكن تعريف المجتمع المدني على انه
"شبكة من العلاقات الانسانية التي تقع مستقلة عن او سابقة على الدولة
السياسية او المجتمع السياسي ، وتعبر هذه الشبكات في اطار النظرية السياسية
الليبرالية ذات اهمية واولوية اخلاقية كبرى ، وهنا يتم النظر الى الدولة
بوصفها احدى وسائل حماية هذه الشبكات "(3 ). وعرف فلاسفة العقد الطبيعي
المجتمع المدني بانه كل مجتمع منظم في دولة على اساس العقد الاجتماعي (4).وقد
نظر عدد من الفلاسفة لمفهوم المجتمع المدني وسنأخذ كلاً من " هوبس ، جون
لوك ،ادم سمث" نموذجاً .
توماس
هوبس والسلطة المطلقة :
انطلق
هوبس في رؤيته للمجتمع المدني من افتراضه لحالة الطبيعة التي كان الناس يعيشونها قبل
تأسيس المجتمع المدني .وقد وضع هوبز ثلاثة اركان لتأسيس المجتمع المدني هي :الركن الاول :حالة الطبيعة التي توصف وضع
المجتمع قبل تاسيس المجتمع الطبيعة التي عبر عنها بوصف ( حرب الجميع ضد
الجميع ) “حالة الحرب :ان اهواء الانسان الطبيعية ، وسلطة اللغة التي
تضاعف من تاثيرها المدمر ، تجعل من حالة الطبيعة امراً لا يطاق ،ينبغي تكوين
المجتمع المدني للافلات من الحرب المهددة باستمرار ، ولكن لا يكفي مجرد
اتفاق يمكن الاخلال به ، يجب اعطاء القوة للسلطة المتشكلة هكذا او بالاحرى
الحيلولة دون تمكن قوة اخرى من الوقوف بوجه قوتها والحالة هذه ، لماذا
يتخلى الفرد عن قوته؟ فهي الى ذلك الحين دفاعه الوحيد ضد هجمات الغير ومن حقه
ان يخشى الدخول في صفة خاسرة اذا تخلى عنها من جانب واحد”(5 ).
والركن
الثاني: بحث الافراد عن حلول لضمان امنهم والخلاص من حالة الفوضى والوحشية وذلك
بالاتجاه الى التنازل عن سلطاتهم وحرياتهم ووضعها بيد سلطة عليا .”العهد : يتمثل
الحل في تخل متزامن وكلي في ان ، وذلك شريطة ان يضمن كل واحد اضطرار الاخرين للوفاء بوعدهم ، يعهد
كل الناس بكل سلطتهم الى رجل او جمعية مخضعين له او لها حكمهم وارادتهم من
المفترض اذاً ان يقول كل واحد اجيز لهذا الرجل او لهذه الجمعية واتخلى له او
لها عن حقي في حكم نفسي، شريطة ان تتخلى عن حقك وان تجيز له كل افعاله
بالصورة نفسها ، ان تولد الدولة يقوم هكذا اتفاق يتخلى بموجبه كل مواطن
عن حقه في الدفاع عن نفسه او الهجوم بمقابل ان يؤدي الغير اليمين نفسه وان
يجرد نفسه من كل شيء بالطريقة نفسها حيال السيد الاعلى ، اما السيد
الاعلى فلا يعطي من جهته اي وعد “(6).
-الركن
الثالث : وجود الدولة فقد اعتقد هوبس ان الدولة موجودة قبل تأسيس المجتمع المدني وهي اي
الدولة التي تسير وتضبط المجتمع المدني بموجب السلطات التي تنازل عنها الافراد “السيد الاعلى
: يتوقف امن المواطنين اذاً على قوة السيد الاعلى المتولد هكذا فمن مصلحة
الجميع اذاً ان تكون هذه السلطة مطلقة والاحتفاظ بقسم من السلطة الاصلية
، او اعادة تشكيل سلطة وسيطة ، محاولة للتخلص من سلطان السيد الاعلى
او الرقابة عليه كل ذلك يؤدي الى تعريض امن الجميع للخطر ، لا يمكن اذًاً
الحد من حق الامير في صنع القوانيين وفرض الضرائب وتجنيد الجيوش والاشراف
على الجامعات وتعليم الكنائس ، ذلك يؤدي الى اضعاف الدولة ولا يعزز
حرية المواطنين بل يمهد للحرب الاهلية ودمار المجتمع “(7). ويمكن ان
نلاحظ النزعة الاستبدادية التي طغت على مفهوم هوبس للمجتمع المدني من خلال
تأكيده على اهمية وجود دولة قوية يتمتع فيها الملك بصلاحيات مطلقة تمكنه من
ضبط وادارة المجتمع المدني .ورغم ان هوبس يقر فيما تقدم ان سلطات الملك قد
تكونت بفعل تنازل الافراد عن حقهم وسلطاتهم الطبيعية الا انه لا يجيز
للافراد استرجاع سلطاتهم او تبديل ولائهم مهما حصل من الملك .وكانت اراء
هوبس متاثرة بعدد من الاسباب اهمها :
-خوفه
الطبيعي الناجم عن ولادته المبكرة نتيجة هلع امه اثناء حملة الاسطول الاسباني على
انكلترا(8).
-تأثره
بالاحداث الدامية التي رافقت الثورة الانكليزية 1688 والتي نتج عنها اعدام ملك
بريطانيا.
-طبيعة
المجتمع الاوربي في ذلك الوقت ونظريات السلطة السائدة ( الحق الالهي ) وهو ما توضح
في فكر هوبس في وجود الدولة سابقاً لوجود المجتمع المدني.
جون
لوك والليبرالية :
انطلق
جون لوك في نظريته للمجتمع المدني من مهاجمته للسلطات الاستبدادية ودفاعه عن الثورة
المجيدة في انكلترا اذا كان يعتقد انه لا يمكن اقامة مجتمع مدني بوجود سلطات استبدادية “ان سلطة
الدولة اللامحدودة سوف تقوض الامن الذي صممت هذه السلطة لحمايته اصلاً ،
وسوف تجعل قيام المجتمع المدني امراً مستحيلاً”(9) .وتعتبر مصالح الافراد هي
حجر الاساس في نظرية لوك للمجتمع المدني فالفرد لدى لوك هو الذي يتنازل
عن حقه في حكم نفسه وسلطته بمحض ارادته ويفوضها الى جهة اعلى ولا احد
يستطيع ان يجبره على التنازل لذلك يعتبر لوك احد ابرز من منظري للعقد
الاجتماعي على اسس ليبرالية .حيث نشأة المجتمع المدني تتنتج عن اختلاف مصالح افراد
المجتمع الطبيعي في تفسير حقوقهم الطبيعية فقد افترض لوك وعلى النقيض من هوبس بان الافراد
في مجتمع الطبيعة ليسوا كما وصفهم هوبس بل انهم اشخاص
عاقلين وملاك يديرون امورهم من دون تدخل احد” في اطار حالة الطبيعة يكون
البشر احراراً متساوين لان العقل يمكنهم من التحلي بالعقلانية “(10) وهو
يراها كالاتي “حالة من الحرية كاملة في تنظيم افعالهم ، والتصرف بمقتنياتهم
واشخاصهم كما يرون مناسبا، ضمن حدود قانون الطبيعة دون استئذان اي انسان
من اخر او الاعتماد على ارادته “ (11).ويمكن ان نوضح اركان تكوين المجتمع المدني لدى
لوك وهي :
اولاً
: وجود حالة الطبيعة من الحرية والتصرف لدى افراد المجتمع الطبيعي تتصف بالعقلانية .
ثانياً
: الافراد في مجتمع الطبيعة عاقلون ولديهم ملكية وهنا بالضرورة يوجد تعامل بين الافراد
يقود التعامل هذا الى ظهور الاختلافات بين الافراد وعليه يجب ايجاد قاضي وقانون ينشئ عن طريق
الاتفاق الارادي بين الافراد في مجتمع الطبيعة على التنازل الجزئي والمشروط عن
حقوقهم وسلطاتهم للسلطة الوليدة لتدير حياتهم وتفصل بينهم .
ثالثاً:
عدم وجود سلطة سابقة ويرى لوك وبالنقيض من هوبس انه لا وجود للدولة قبل تاسيس العقد
الاجتماعي وبالتالي فأن وجود الدولة مرتبط اساساً بالافراد الذين تعاقدوا على تأسيس المجتمع
المدني عن طريق العقد الاجتماعي الذي يخولهم العودة الى مجتمع الطبيعة متى ما
اخلت السلطة بالتزاماتها بموجب العقد الاجتماعي “ان جون لوك يعادل بين
المجتمع المدني والمجتمع السياسي او الدولة فكلاهما لديه مترادفين
ومعبرين عن شيء واحد ، هو الاختلاف والانتقال من حالة الطبيعة الى حالة
الاجتماع الانساني “(12).ومن خلال ما تقدم يمكن ان نلاحظ التوجه الليبرالي الذي طغى
على تفكير جون لوك في وضعه اسس المجتمع المدني فخروج الافراد
من حالة الطبيعة وتاسيس المجتمع المدني انما هو نتيجة اختلاف مصالح
الافراد وعدم وجود تنظيم وحل لهذه الخلافات .اساس المصالح لدى الافراد هو
الملكية الخاصة ولرغبة الافراد في الحفاظ على حياتهم ومصالحهم الملكية الخاصة
انتقلوا عبر العقد الاجتماعي من حالة الطبيعة الى المجتمع المدني
ويقول لوك “ اذا امكن تاسيس المواطنة على التملك ، فلن يكون للعقلاء مصلحة
في الفوضى ما داموا يصرفون اعمالهم بسلام “(13) .ادم سمث المجتمع المدني والسوق :شهد مفهوم المجتمع
المدني في منتصف القرن الثامن عشر اتجاهات جديدة غير الاتجاهات التقليدية السائدة من قبل ، تمثلت
هذه الاتجاهات الجديدة في تفسير قيام المجتمع المدني على اساس العلاقات
الاقتصادية المتوازنة بين اعضائه حيث كان ادم سمث “ اول من صاغ الفهم
البرجوازي للمجتمع المدني ، وسعيه الى دمج النشاط الاقتصادي وعمليات السوق
في فهم وتشريح الحياة المتمدنة “(14).ويعرف سمث المجتمع المدني مجال انتاج الثروة “
شبكة من الاعتماد المتبادل تنظمها السوق وان ما تنقله
هذه الشبكة من عمل يقتضي معنى حديثا للحرية الذاتية “(15 ) .والمجتمع المدني
كما يصفه سمث مجتمع قائم على اساس حرية العمل وحرية الملكية وليس له
علاقة بالاخلاق التي يتمتع بها الافراد داخل هذا المجتمع بل على اساس الحاجات
الاقتصادية الاساسية والتي تتعلق بالانتاج والتعاون وتقسيم العمل . والمجتمع المدني لدى
سمث لا ينشأ عن طريق العقد بل ان النزوع الطبيعي للطبيعة
البشرية هو الذي يقود الى تاسيس المجتمع المدني “لا يتوقع تشكيل نظام اجتماعي
متين بالاعتماد على احساس فطري بالرفقة او الاخلاقية “(16).بل
يعتمد كما يقول سمث على “انجز مهمته بتاسيس المجتمع المدني على نزوع انساني
نحو التعامل والمقايضة والتبادل “(17).والمجتمع التجاري هو المجال
الذي ينشطون فيه الناس ويقسمون انفسهم فيه على شكل
طبقات وهذا المجتمع منفصل عن الدولة وهو الذي ينظم ذاته بذاته عن طريق العمليات التي تجري داخله
.وبما ان المجتمع التجاري هو مجال انتاج الثروة وهو منفصل عن الدولة فهو
الذي يمول الدولة من خلال الضرائب التي يدفعها اصحاب العمل والمنتجين
وملاك الارض والتجار للدولة وذلك لتنفذ الواجبات المترتبة عليها تجاه
المواطنين .
-حماية
المواطنين في المجتمع المدني من الاعتداء الخارجي عبر تاسيس جيش قوي “يقتضي هذا جيشاً يختلف
عن المواطنين المسلحين في النظم الاجتماعية السابقة للسوق “(18)
-الشرطة
والقضاء لحماية ارواح واموال المواطنين في المجتمع المدني “ حماية كل عضو في المجتمع قدر
الامكان من الحيف والظلم الذي يلحقه بهعضو اخر ، او واجب تاسيس ادارة دقيقة للعدالة “(19).
-انشاء
القطاع العام اي الممتلكات ذات النفع العام “ اقامة وصيانة المؤسسات والاشغال
العامة “(20)
الاستنتاج :-
ويتضح
مما تقدم ان مفهوم المجتمع المدني لم يكن متماثلاً لدى فلاسفة العقد الاجتماعي اذ تطور حسب
المرحلة التاريخية ومواكباً للتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حدثت في المجتمعات
الاوربية .وهذا
مانلاحظه لدى هوبس في تنظيره للسلطة المطلقة وتاثره
بالاحداث التي رافقت تنظيره لمفهوم المجتمع المدني .وهو ما نراه جلياً لدى
جون لوك الذي عبر عن الحراك الاجتماعي في المجتمع الاوربي والذي ضمنه في
نظريته للعقد الاجتماعي هذا الحراك الذي اصبح حقيقة عند قيام الثورة
الفرنسية بعده بوقت ليس بالطويل .اما ادم سمث فقد تاثر بتدفق الثروات التي نجم
عن الاختراعات الحديثة التي شهدتها اوربا هذا الثروات التي جعلت من
للاقتصاد القوة الحاسمة في مواجهة السلطة السياسية وبالتالي فان سمث راى ان من
يدفع الضرائب ليدير عجلة الحياة في المجتمع اولى ان يسمى بالمجتمع
المدني وان يأخذ دوره في ادارة نفسه بعيدة عن تدخل الدولة واجهزتها المحددة
بمهام محددة.
