وقبل أن نتقدم خطوة أخري إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليه
وسلم، ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة
حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين، حتى توج اللّّه هامته
بسيادة الأولين والآخرين.
إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} الآيات [المزمل:1، 2]. و{ يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1، 2] الآيات،
فقام وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبري في
هذه الأرض، عبء البشرية كلها وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في
ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميادين الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية
وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهاق الشهوات
وأغلالها. حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام
الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخري في ميدان آخر، بل معارك
متلاحقة... مع أعداء دعوة اللّه المتألبين عليها، وعلى المؤمنين بها،
الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها
في التربـة، وفروعها في الفضاء، وتظلل مساحات أخرى... ولم يكد يفرغ
من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ
للبطش بها على تُخُومِها الشمالية.
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولي ـ معركة الضمير ـ قد انتهت، فهي
معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يَنِي لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق
الضمير الإنساني، ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة اللّه هناك، وعلى
المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة
عليه وفي جهد وكَدٍّ، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة، وفي
نُصُب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة
لربه وترتيل لقرآنه، وتَبَتُّل إليه كما أمره أن يفعل.
وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن
عن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير
له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها،
وصحت العقول العليلة حتى تركت الأصنام بل كسرت، أخذ الجو يرتج بأصوات
التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها
الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون
أحكام اللّه.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة
اللّه، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم
ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد اللّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه،
أذهب اللّه عنهم عُبِّيَّةَ الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق
هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا
بالتقوي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب.
وهكذا تحققت ـ بفضل هذه الدعوة ـ الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية،
والعدالة الاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي
مسائلها الأخروية، فتقلب مجري الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ،
تبدلت العقلية.
إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية ـ قبل هذه الدعوة ـ ويتعفن ضميره،
وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه
موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال
والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف،
وسري فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة، لا
حياة فيها ولا روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية، خلصت روح البشر من الوهم
والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال،
وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن
فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامت ببناء العالم على
أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة
واليقين، والثقة والإيمان، والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب لتنمية
الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة.
وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ
نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من
عمرها.