كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالغرض من الخطبة: إثارة الهمم للعمل لنصرة دين الله ببذل الأسباب المتاحة لإقامة الدين، وترك الأماني والأحلام والتراخي.
المقدمة(1):
قدَّر
الله -سبحانه وتعالى- لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يُمكَّنوا، وللمشركين
أن يُهزموا، ومع ذلك؛ فهل قال -تعالى- للمسلمين: ما دمت قدرتُ لكم النصر
والتمكين فاقعدوا وانتظروا إنفاذ قدري وهو لا بد نافذ؟! كلا وإنما قال لهم:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ... ) (الأنفال:60). وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)، فلابد إذن مِن اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين وإن كان ذلك قدرًا مقدرًا مِن عند الله.
الأخذ بالأسباب سنة كونية وشرعية:
- جعل الله -تعالى- الكون بقدرته، وجعل أسباب ومسببات بعد إرادته -تعالى- هي سنن جارية في الكون(2).
- الجبال لاستقرار الأرض، والماء والهواء سبب للحياة... وغير ذلك، قال الله -تعالى-: (أَفَلَمْ
يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ . وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا
وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ . تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (ق:6-8)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء:30)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف:57).
- وجَّه الله عباده إلى الأخذ بالأسباب في كل شئونهم الدينية والدنيوية: قال -تعالى-: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:105)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)(3)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) (متفق عليه).
المتوكلون والأخذ بالأسباب:
- مباشرة الأسباب في أشد حالات الضعف عنها إقرار لهذه السنة: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا) (مريم:25).
- أبو البشر الثاني والعمل بالأسباب على رغم تيقن النتائج: (فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ
أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (المؤمنون:27).
- محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد المتوكلين في يوم الهجرة: "إعداد الرواحل - الرفيق - الدليل - الكتمان - الغار - مخالفة الطريق... ".
ويوم الأحزاب: "حفر الخندق - تنظيم الحراسة - السعي في تفريقهم بالأسباب المختلفة".
الأخذ بالأسباب في أمور الدين والدنيا:
- السعي والعمل رجاء رحمة الله وجنته: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء:19).
- الأعمال أسباب للنجاة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أنزل الله عليه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الأَقْرَبِينَ). فقال: (يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا
أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ،
لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ
اللهِ، سَلِينِي بِمَا شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (متفق عليه).
- السعي في أسباب الحياة الكريمة نجاة من الذل والعوز:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى
النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: (أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟) قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: (ائْتِنِي بِهِمَا)، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ، وَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟) قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: (مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا)،
قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ،
وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: (اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ)، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا)،
فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ
عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا
طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أبو داود، وحسنه المنذري).
ولما
رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعض الكسالى قابعين في المسجد ينتظرون
الرزق قال: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن
السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضةً، وإن الله -تعالى- يقول: (فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10).
- تقدم الكافرين وتخلف المسلمين في أكثر شئون الحياة بسبب هذه السنة رعايةً وإهمالاً: قال -تعالى-: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران:182)، وقال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15).
التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
- قال العلماء: "تعلق القلب بالأسباب قدح في التوحيد، وإلغاء الأسباب قدح في العقل والشرع".
- تعلق القلب بالأسباب قدح في التوحيد:
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلاةَ الصُّبْحِ
بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا
انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟). قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (قَالَ:
أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ:
مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ
بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا
فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) (متفق عليه).
- إلغاء الأسباب قدح في العقل والشرع(4):
روى الطبراني عن كعب بن عجرة، وابن أبي الدنيا عن معاوية قال: "لقي عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- ناسًا مِن أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا متوكلون.
قال: كذبتم، ما أنتم متوكلون! إنما المتوكل الذي ألقى حبة في الأرض وتوكل
على الله".
- الجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: (اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ) (رواه الترمذي وابن حبان، وحسنه الألباني).
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ
لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ
بِطَانًا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
علاقة الأسباب بالنتائج:
- مراعاة الأسباب المتاحة المشروعة له الأثر على النتائج فعلاً وتركًا.
- الأسباب المأمور بها في الشرع للتمكين دائمًا في الطوق: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، (قَالَ
رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا
ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة:23).
- صورة ومثال: "فتح مكة وأثر الإعداد بالأسباب الصحيحة على النتائج - الفتح - الاستسلام من قريش - الإسلام بعد ذلك".
خاتمة:
يجب
على أبناء الأمة الإسلامية أن يتجاوزوا مرحلة الوهن والغثاء إلى مرحلة
القوة والبناء، وأن يكفوا عن التراخي، والأحلام والأمنيات، وينهضوا بكل
الأسباب التي توصلهم إلى التمكين وتؤهلهم له.
فاللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومن أهم السنن الربانية التي يجب على الأمة الإسلامية مراعاتها على طريق إقامة الدين والتمكين "سنة الأخذ بالأسباب".
(2)
الله -سبحانه وتعالى- قادر على نصرة الحق بعد الأسباب البشرية، فهو
-سبحانه- يقول للشيء كن فيكون، ولكن هكذا جرت سنته فلا بد مِن السير على
ذلك؛ لأنه الأصل، وأما الخوارق فإنها الاستثناء.
(3) ومِن ذلك: أنه قرن وجود الخير في الأمة بإقامة دينه: (كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ
أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم) (آل عمران:110).
(4) مثاله: كطلب النصر والتمكين بلا عمل وإعداد، وطلب الولد بلا زواج، وطلب الري مع ترك الشرب.