الحديث عن السلفية في السعودية حديث متشعب
وبالغ التعقيد؛ لذلك، يحسن بنا تبني مقاربة تحليلية لعنصر من عناصر
السلفية السعودية، في محاولة منا لتقديم وجهة نظر شمولية للتعريف بالبداية،
والأيديولوجية، والتطوارات، وما آلت إليه السلفية في اللحظة الراهنة.
ولهذا
السبب، سنحاول تناول عنصر من أهم عناصرها ألا وهو المعارضة، المنبثقة من
رحم السلفية، ونعني بهذا ما يُسمى بالصحوة الإسلامية في السعودية. ونعتقد
أن تناول المعارضة السلفية سيكون أشمل من تناول السلفية بشكل تقليدي لأن
المقاربة الأولى تعني تناول السلفية من الداخل كما من الخارج، بحكم أن
معارضة الشئ تبدأ بتفكيك قواعد تكوينه، مع الحفاظ على مسافة معينة.
النشأة والتكوين
في
عام 1744 توّج قائدان، القائد السياسي محمد بن سعود والقائد الديني أو
الروحي محمد بن عبدالوهاب، تحالفهما العسكري-الديني على أساس تكوين ميدان
للسلطة، إذا ما استخدمنا مصطلحات عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. وتم
تقسيم هذا الميدان بين مجالين: السياسي تحت قيادة ابن سعود والديني تحت
إشراف ابن عبدالوهاب. وبهذا استطاع الرجلان إنشاء تحالف قوي قامت عليه
الدولة السعودية الأولى، واستمر هذا التحالف في إمداد الدولتين اللاحقتين،
السعودية الثانية والسعودية الثالثة، بمصدر شرعية بالغ الخطورة والأهمية،
ألا وهو الدين.
بالتركيز على نقطة مهمة: كما يلاحظ الباحث إبراهيم
خليفة، فإن هذا التحالف هو أول تحالف يكون التيار المقاتل للمسلمين على
اعتبارات دينية، سببًا في ميلاد دولة ملكية. رأينا مع معاوية بن أبي سفيان
ميلاد الملك، ومع الخوارج قتال المسلمين. لكنها أول مرة يجتمع قتال
المسلمين مع الملك الوراثي.
الأيديولوجية
كما
يلاحظ الكثير من الباحثين، قام فكر ابن عبدالوهاب على ما يسمى بمنهج السلف
الصالح، والمقصود بذلك هو الرجوع إلى مصادر التشريع الأصلية، وهي القرآن
والسنة. ولم يكن عبدالوهاب منقطعًا عن معاصريه، منهجًا وممارسة، كما هي
الصورة الشائعة عنه. بل كان مطّلعًا على المدارس الفكرية الرئيسية وتوجهات
علماء عصره، كما تؤكد الباحثة ناتانا دولونغ باس. ويشدد الباحث تيم نيب لوك
على هذه الفكرة أيضًا عبر استشهاده بتعدد التفسيرات لإرث محمد بن
عبدالوهاب، وكون ذلك بحد ذاته دليل مرونة فكره وقابليته للتكيف مع أكثر من
اتجاه.
على أن الرجوع لمنهج السلف الصالح، حسب فكر عبدالوهاب، يعني
جعل الاجتهاد مركزًا رئيسيًا في الفقه، وهو ما نراه جليًا في أهم كتابات
هذا العالم، لاسيما مؤلفه الشهير كتاب التوحيد. وبناءً على هذه الفكرة يصبح
التقليد مرفوضًا. ولهذا التوجه انعكاسات خطيرة، سنتتبع بعضها في ما يلي من
فقرات. ويجب ملاحظة نقطتين في هذا المقام: الأولى: هي رفض التقليد عبر
مركزية الاجتهاد. ومردّ ذلك أن الاجتهاد حق لكل مسلم، يمارسه دون وصاية من
أحد. وبالتالي، وهذا ثانيًا، فإن المساحة التي تفصل عالم الدين عن المجتمع
تصبح قصيرة إلى حد كبير جدًا، مما يقيد احتكار الدين، أو ممارسة الكهنوتية،
وفتح الفضاء العام للتعددية الفكرية في الدين، دون الإخلال بالخطوط
العريضة بالتأكيد.
غير أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وكما يؤكد كثير
من الباحثين، عبر سعيه للتفرغ لأمور العقيدة، أهمل الاجتهاد وفضّل اتباع
فتاوى بعض من سبقوه، متبنيًا المدرسة الحنبلية في المجمل. وفي هذا تناقض
واضح بين دعوته للاجتهاد وتقليده المدرسة الحنبلية. ولا نستطيع أن نحدد
الأسباب التي جعلته ينحو هذا النحو، لكن من المهم استحضار السياق السياسي
لتكوين الدولة السعودية الأولى، وهو التوسع والسيطرة على أراضٍ جديدة. وهذا
ربما قد جعل التركيز ينصب على تعليم العقيدة أكثر من الفقه، بحكم دخول
أعداد غفيرة في دعوته.
التطور
كأي
فكر في أي مكان، تطور هذا المنهج الذي أصبح يُعرف بالوهابية، ذلك المزيج
من الاجتهاد النظري والتقليد العملي (الحنبلي). ومن المراحل المهمة التي مر
بها بروز تيارين رئيسيين، كما يلاحظ الباحث ستيفان لاكروا، وهما التيار
الإقصائي والتيار الاحتوائي. ومن الأمثلة على ذلك موقف العلماء من الغزو
المصري للدولة السعودية الثانية عام 1818 واحتلالهم لأراضيها؛ فانقسم جمهور
العلماء بين مكفر مخرج للمصريين الغزاة من الملة، وعليه تجب الهجرة عن أرض
يحكمونها، وبين مفسق لهم ومعترف بخطئهم غير أنهم لم يكفروا ولم يخرجوا من
الملة، وعليه فلا حاجة للهجرة من "دار الكفر إلى دار الإسلام".
استمر
هذا التطور مع بداية الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز آل
سعود، غير أن عدة متغيرات طرأت على ميدان السلطة، المحكوم بالقسمة
التقليدية: المجال السياسي بقيادة آل سعود والمجال الديني تحت إشراف رجال
الدين ومن أبرزهم أفراد أسرة آل الشيخ، أي أسرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
ومن هذه المتغيرات تلك الموجة التحديثية والتنموية الهائلة والتي ساهمت في
بروز مجالات أخرى في ميدان السلطة، مثل المجال الاقتصادي والمجال الثقافي.
غير أن تلك المشاريع التنموية الهائلة ركزت على المكان أكثر من الإنسان،
كما يلاحظ المفكر عبدالله الغذامي؛ مما جعل التنمية، حسب تعبيره، تنمية
مشوهة. ويشرح لنا المفكر الغذامي أن السبب في ذلك هو عدم مواكبة التنمية
القيمية، كقيمة العمل والثروة والإنتاج، للتنمية المادية. ومن هنا برزت
تحديات جمة، على رأسها مصالحة الأصالة بالمعاصرة. وبحكم موقع رجال الدين
الاجتماعي، يتم النظر إليهم، إلى حد ما، على أنهم هم حراس الأصالة،
والمؤتمنون على المحافظة عليها.
رافق هذه التنمية المشوهة، سياق
إقليمي أحدثه سقوط القومية العربية المدوي، وفشل مشاريعها التنموية،
وهزائمها أمام إسرائيل. أحدث ذلك كله فراغًا فكريًا كبيرًا. وكان ذلك في
خضم سقوط الحداثة العالمية، وبروز ما بعد الحداثة: قدوم الهامش وسقوط
المركز. فبرزت الحركات الإسلامية على الساحة، مالئةً بذلك البروز فراغًا
خلفته القومية العربية. في هذه الفترة، مرت السعودية بتحديات أهمها ترسيخ
شرعيتها، وإنهاء الصراعات داخل العائلة الحاكمة على العرش؛ مما اضطرها
للاستعانة بالمؤسسة الدينية لإضفاء الشرعية على الترتيبات الجديدة (تتويج
فيصل ملكًا، وتقاسم السلطة مع المراكز المؤثرة داخل الأسرة الحاكمة).
استفادت
المؤسسة الدينية من هذه الظروف لتعزيز سلطتها، فتمتعت بامتيازات كبيرة،
ليس أقلها السيطرة على قطاعات التعليم المختلفة، وإشرافها المباشر على
المناهج التعليمية وعلى النشء. وبحكم استضافة المملكة العربية السعودية
لأفراد جماعات الإخوان العربية، خصوصًا من سوريا ومصر، احتك الفكر الوهابي
السلفي بالفكر الإخواني الحركي، فأحدث ذلك الاحتكاك تطورات خطيرة على
المفاهيم الرئيسية في الفكر السلفي الذي كان سائدًا في السعودية من قبل.
مفاهيم رئيسية
من
أهم المفاهيم الرئيسية في الفكر السلفي الوهابي مفهوم طاعة ولي الأمر؛
ولهذا المفهوم دور مركزي في المحافظة على شرعية الحكم في الدولة السعودية.
وحسب الإرث الوهابي، لا يجوز الخروج على ولي الأمر، وتحدي سلطته إلا إذا
منع الصلاة في المساجد، أي بعد كفره وخروجه من الملة خروجًا بيّنًا. وهذا
يعطي ولي الأمر مساحة غير محدودة للتصرف في إدارة الدولة كما يشاء، دون
رقابة، على المستوى النظري طبعًا، من أحد. غير أن تواجد الإخوان الكثيف في
السعودية، وحضورهم المهم في مراكز "تعبوية" خطيرة، كأساتذة جامعات وأطباء
ومهندسين، كان له بالغ الأثر.
بالإضافة إلى ذلك، حصل تواصل فكري
ديني بين جيل من شباب الوهابية ومفاهيم حركية إخوانية. ومن ذلك، حق الأمة
أن تكون وصية على نفسها بحكم كونها هي ولية أمر الإسلام والمسلمين، خصوصًا
فكرة أهل الحل والعقد، وفي هذا توفير لبديل خطير لمفهوم ولي الأمر
التقليدي. التأثر بالفكر الإخواني الحركي انعكس على مفهوم ولي الأمر
كثيرًا، لدرجة إدراج شروط متعددة، إذا لم يتم احترامها تسقط شرعية الحاكم،
ويستتبع ذلك جواز الخروج عليه. لكن تحديد تلك الشروط، ومراقبة احترامها؛
ومن ثم تقرير ما يلزم تجاه الخروج أو عدم الخروج على الحاكم، يبقى ذلك كله
منوطًا بأهل الحل والعقد.
مفهوم أهل الحل والعقد، يعني تقسيم
المسلمين لقسمين: قسم تابع وقسم متبوع. امتلاك صلاحية تحديد أفراد كل قسم،
ينحصر في رجال الدين، نظريًا. ولكنه عمليًا يخضع لشروط اجتماعية كثيرة
ومعقدة. والمهم في ذلك كله، هو إمكانية تحوير هذا المفهوم ليصبح أكثر
انفتاحًا على الجميع، بما يمهد لتقليل احتكار نخبة معينة للسلطة. وهذا حصل
مع تيارات متعددة انبثقت عن السلفية، مثل الصحوة، والتي شكّلت في فترة ما
معارضة قوية للمجالين الرئيسيين في ميدان السلطة: المجال السياسي والمجال
الديني.
يلي ذلك مفهوم الولاء والبراء.
وهو مفهوم يعني، حسب وجة النظر الوهابية، حرمة موالاة الكفار. وقد نظر
لهذا المفهوم محمد بن سعيد القحطاني في كتابه (الولاء والبراء في الإسلام).
وقد ساعد هذا الكتاب في إعادة الزخم للتوجه الأحادي في الوهابية، أي:
الرأي الأوحد الإقصائي. ولهذه الفكرة أثر بالغ الأهمية؛ حيث إن النظام
السياسي الدولي يفرض على المملكة العربية السعودية، بحكم مركزية النفط في
اقتصادها، الارتباط بالاقتصاد العالمي والانفتاح عليه. وهذا أمر يمكن تفهمه
إذا نظرنا لكون المملكة تحتاج من يشتري نفطها، وهذا بالطبع يعني الدول
المتقدمة والمتطورة صناعيًا. وهنا مأزق آخر يجب على السعودية التعامل معه:
مصالحة موقعها الإسلامي المحوري وخطاب شرعيتها المستند على الكتاب والسنة
وتحالفاتها مع العالم الغربي، الذي لا يدين بالإسلام.
وكلما عصفت
بالمملكة أزمة، أيًا كانت، اجتماعية أو اقتصادية أو خلافه، عبّرت تلك
الأزمة عن وجودها من خلال المأزقين الكبيرين: مصالحة الأصالة والمعاصرة،
والجمع بين موقعها كبلد للحرمين وحليف رئيسي للغرب. ونستدل على ذلك بعدة
أمثلة، كالحرب الأهلية التي تمت بين الملك عبدالعزيز والإخوان في أواخر
العشرينيات من القرن المنصرم. لقد كان لقادة الإخوان والذين يمكن أن نطلق
عليهم مسمى النخبة القبلية (بحكم قيادة شيوخ قبائل مطير وعتيبة لهذه القوة
العسكرية الضاربة)، طموحات سياسية، كاقتسام السلطة مع الملك عبدالعزيز،
ولكن قاموا بالتعبير عن احتجاجهم على احتكار الملك عبدالعزيز للسلطة من
خلال مفاهيم دينية، مثل الولاء والبراء. وكان أهم مأخذ لهم هو مهادنة
الكفار وموالاتهم ومنع الجهاد ضدهم، وكانوا يقصدون العراق والأردن
وبريطانيا. انتصر الملك عبدالعزيز، ولكن المفهوم بقي حيًا.
ومن
الأمثلة أيضًا احتلال جهيمان العتيبي وأصحابه للحرم المكي الشريف، محاولاً
قلب الحكم على أسرة آل سعود. ويرى بعض المحللين أن التغيرات الاجتماعية
الهائلة كانت أحد العوامل التي أسهمت في بروز حركات مثل حركة جهيمان. فمأزق
مصالحة الحداثة مع التاريخ الإسلامي والاجتماعي في السعودية، أي الأصالة
والمعاصرة، تسبب في التأثير على السلم الاجتماعي. غير أن أحد الأساليب التي
اتبعتها الحكومة السعودية للتعامل مع هذين المأزقين، مصالحة الأصالة
والمعاصرة ومأزق الولاء والبراء، كان احتواء المؤسسة الدينية عبر تأطيرها
وتعميق تبعيتها للسلطة السياسية. وظهرت على السطح مؤسسات مثل مؤسسة هيئة
كبار العلماء.
بالإضافة، قامت الدولة بابتعاث أعداد كبيرة من
الشباب للخارج، بهدف اكتساب المعارف والعلوم الحديثة، ولكنهم عندما عادوا،
لم يحملوا تلك العلوم فقط، بل أفكارًا وتوجهات لها أبعاد اجتماعية. فشكّلت
هذه الأجيال المتعاقبة أرضية لنخبة ثقافية، استقلت بمجالها الخاص على ميدان
السلطة. ولا أَدَلّ على ذلك من بروز حركة الحداثة الأدبية التي حصلت في
منتصف الثمانينيات، والتي تمتعت بإطار نظري متقدم وإنتاج نقدي وأدبي ثري.
وقد عملت هذه التغيرات مجتمعة على بروز تيارات متعددة داخل السلفية
الوهابية السعودية، كردة فعل على كل هذه المتغيرات.
التيارات السلفية وعلاقتها بالسلطة
لاعتبارات
المساحة المتاحة، سنكتفي بالحديث عن طرفين رئيسيين يعارضهما التيار
الصحوي، وهما: السلفية التقليدية والجامية. ولكن علينا تعريف هذا التيار
الصحوي وتحرير بعض مصطلحاته.
طغى الجو
الإسلامي الحركي، أو الإسلام السياسي، على الساحة الإقليمية. وبرز
الإسلاميون في كل من فلسطين، وسوريا، ومصر، وإيران. وشكّلت فترة الجهاد
الأفغاني مرحلة مفصلية في تاريخ السلفية السعودية. فقد اشتد عود هذا التيار
الصحوي عبر مواجهتين: الأولى داخلية والثانية خارجية.
ففي الداخل،
كما يؤكد كثير من المختصين، شكّل بروز الحركة الحداثية الأدبية، والتي
حصرت عملها في الأجناس الأدبية الحداثية، مثل القصيدة النثرية والشعر الحر،
شكّل ذلك كله ساحة مواجهة مع الصحويين. لم يكن للحداثيين، من أمثال علي
الدميني وعبدالله الغذامي، أي نشاط على المستوى الاجتماعي، بل حصروا
حداثتهم في المجال الأدبي، ربما لمعرفتهم بانعكاسات الانخراط في المستويات
الأخرى. ولكن الصحويين رأوا في ذلك مقدمات لحداثة اجتماعية وسياسية
واقتصادية؛ مما جعلهم يتعاملون معها على أنها غزو مباشر يقوم به الغرب عبر
وسطاء محليين. ولذلك، فإن الهدف الرئيس للحداثة الأدبية، حسب وجهة نظرهم،
هو مسخ الهوية الإسلامية للمجتمع السعودي. وقد شنوا معركة ضارية، اضطرت
جامعة أم القرى، على سبيل المثال، إلى الامتناع عن منح سعيد السريحي، وهو
ناقد أدبي حداثي معروف، شهادة الدكتوراه. واضطرت أيضًا عبدالله الغذامي،
صاحب كتاب الخطيئة والتكفير، لترك جامعة الملك عبدالعزيز في جدة والانتقال
إلى الرياض.
وقد حاولت السلطة الحفاظ على توازن معين بين الفريقين،
لكي لا يفني أحدهما الآخر، ربما لموازنة بعضهما ببعض فلا تخلو الساحة
لأحدهما فيشكل مصدر إزعاج للسلطة. أما العدو الخارجي فكان الإلحاد
السوفيتي، والذي غزا أفغانستان. فكان لابد من إعلان الجهاد عليه ودحر
عدوانه. وقد وافق ذلك هوى الحكومة السعودية التي كانت ترى في وصول الجيش
الأحمر لأفغانستان مقدمة لغزو الخليج، ودعم القوى اليسارية العربية، على
حساب الملكيات والأنظمة المحافظة. ولاقى ذلك ترحيبًا غربيًا بشكل عام،
وأميركيًا بشكل خاص، وذلك لتوجس الغرب من الاتحاد السوفيتي وطموحاته
التوسعية في الخليج العربي.
وكان محصلة
ذلك كله أن دعمت الحكومة السعودية الجهاد في أفغانستان عبر الدعم المادي
والمعنوي، فقامت حملات التعبئة في المملكة، على مستوى المال والرجال، وكانت
هذه مقدمات لبروز تنظيم القاعدة. ولما انتصر المجاهدون على الجيش الأحمر،
عاد معظمهم لبلدانهم، ومن بينها السعودية. ولكن هذا أدى لنشوء ظاهرة جديدة
كان لها بالغ الأثر فيما تلا من الأيام، ألا وهي ظاهرة البطالة الجهادية.
بعد عودتهم من أفغانستان، بعد اكتساب مهارات قتالية وتنظيمية كبيرة، يطوف
حولها شعور عارم بالفخر بالنصر على "قوى الإلحاد"، عانى هؤلاء المجاهدون
السابقون من غياب "المعركة الكبرى" بين الحق والباطل، أي من بطالة جهادية.
فلم يعد رغد العيش والصالات المكيفة تعوضهم عن هامات الجبال في تورا بورا
أو بطون الأودية الأفغانية. وقد رأوا في المجتمع السعودي "آثار التغريب"
والابتعاد عن الهوية الإسلامية "الحقة" من زهد وتقشف وصفاء عقيدة. ولوجود
البنية التحتية الملائمة التي سمحت بها ودعمتها الحكومة بغرض التعبئة
للجهاد الأفغاني، استطاع هؤلاء العائدون أن يستثمروا خبراتهم التنظيمية
لاستكمال مسيرتهم في "خدمة الإسلام".
ولم
يكن ينقصهم سوى سبب، أو مثير، ليتم التحرك وتفعيل دور تلك البنية التحتية
التعبوية. ومع غزو العراق للكويت، واضطرار السعودية للاستنجاد بالغرب، توفر
السبب وحانت الفرصة، فبدأت التعبئة ضد "الغزاة الأميركان" في أرض
"الحرمين". وتزامن كل هذا مع حركة حقوقية عامة، ونسوية بشكل خاص، تمثلت في
عرائض تم تقديمها للملك للمطالبة بالإصلاح أو بقيادة المرأة للسيارة. فربط
هؤلاء الصحويون بين جهتين: داخلية سعودية وخارجية غربية، يشتركان في هدف
واحد: تغريب بلاد الحرمين. وشكّلت هذه هزة كبرى للنظام السياسي.
معركة المفاهيم
بينما
الفكرة الرئيسية للسلفية هي فتح باب الاجتهاد ونبذ التقليد، يتم التحكم في
من له الحق في أن يجتهد ومن يمتلك القدرة على ذلك عبر مفهوم أهل الحل
والعقد. غير أن الصحويين، بدأوا بتفكيك مفهوم أهل الحل والعقد عبر تحدي
السلطة الروحية والقدرة العلمية لأفراد المؤسسة الدينية الرسمية. وكانت
إستراتيجيتهم الرئيسية هي في هدم الجدار الفاصل بين مجالي السياسة والدين،
بغرض إخضاع المجال السياسي للسلطة الدينية. فإذا ما تم التشكيك إما في علم
أو في مصداقية أفراد المؤسسة الدينية، سهل بعد ذلك حرمانهم من بطاقة
العضوية في "أهل الحل والعقد". وبذلك يفقد السياسي مصدر شرعيته الرئيسي.
يهتم
علماء السلفية التقليدية، كأعضاء هيئة كبار العلماء والهيئة الدائمة
للبحوث والإفتاء وسلك القضاء، بقضايا العقيدة والتوحيد والشرك والفقه
والمعاملات وغيرها من أمور العبادات، تاركين المجال السياسي بمجمله
للسياسيين. ولذلك فقط شاعت مقولة الصحويين عنهم بأنهم جماعة تهتم بهدم
القبور، على اعتبار أن القبور أحد الأماكن التي تحوي بعض الممارسات
"الشركية" أو "البدعية". بينما تهتم الصحوة "بهدم القصور" معلنة بذلك
انفتاح المجالين السياسي والديني على بعضهما البعض.
بين
هدم القبور وهدم القصور، اضطرت السلفية التقليدية لتناول السياسة، وإن كان
من باب الرد على "شبهات الصحوة" أو تبرير تصرفات الحكومة، مثل اعتقال
أسماء صحوية لامعة كسفر الحوالي وسلمان العودة أو عائض القرني. وبهذا تحقق
الهدف الصحوي الأول، وهو تعويم الحدود بين السياسة والدين.
حاولت
الحكومة السعودية احتواء نزعة المعارضة الصحوية عبر ثلاث خيارات: الأول: هو
التعامل الأمني مع كل من يحاول انتقاص هيبة الدولة أو مؤسسات الحكم.
والثاني: هو دعم التيارات المضادة، والتي يراد منها خلق حالة توازن مع المد
الصحوي الجارف. والثالث: هو إجراء إصلاحات شكلية، كإصدار نظام مجلس الشورى
والنظام الأساسي للحكم، ونظام المناطق.
ولأن
تلك الفترة تميزت بحالة من التوازن الانتقالي للسلطة، بحكم تعرض الملك فهد
لعدة جلطات أقعدته عن مباشرة مهامه كملك، فقد تولى ولي عهده في ذلك الوقت
عبدالله بن عبدالعزيز مهام الحكم، ولكن بشكل مقيد بحكم أنه لم يكن ملكًا.
ولذلك، زاد التركيز على دعم التيارات المضادة، واحد من داخل السلفية، وهو
ما يُعرف بالجامية، والثاني ما بات يُعرف بالتيار الليبرالي. فازدادت حدة
المواجهات حتى عصفت بالدولة موجات إرهابية جادة، تمثلت في سلسلة تفجيرات،
واعتقال خلايا نائمة، وتحد علني ومباشر للسلطة وللعلماء السلفيين
التقليديين. وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول نقطة مفصلية في
علاقتهم مع السلطة.
وقد قام التيار
الجامي، نسبة لمحمد أمان الجامي، بتوفير أرضية مواتية للتوازن المنشود عبر
التركيز والتشديد على أهمية طاعة ولي الأمر، والتهويل من أخطار "الفتنة".
ويتفق التيار الجامي مع التيار الليبرالي على مفهوم المواطنة وقصر مسؤوليات
الحاكم الرئيسية على الوطن، دون التعلق بالأممية. والجامية تختلف هنا مع
التيار السلفي التقليدي والذي لم تتضح ملامح تعريفه للوطن وعلاقته بالأمة
الإسلامية.
بالإضافة إلى ذلك، تتفق
الجامية مع الليبرالية على أهمية مكافحة الإرهاب، بينما يخف الحماس قليلاً
حيال هذه النقطة عند السلفيين التقليديين.
وتبقى الصحوة التيار
الوحيد الذي يتعامل بمنهجية مع قضية الإصلاح السياسي في المملكة، جاعلة
السياسة على رأس الأولويات. بينما تهتم السلفية التقليدية بالإصلاح الديني،
عبر التركيز على تعليم الناس أمور دينهم، تهتم الجامية بالاستقرار الأمني،
والذي لا يكون من وجهة نظرها، سوى بالاعتصام بحبل الله جميعًا دون تفرقة،
أي بالطاعة المطلقة لولي الأمر. وتركز الليبرالية على الإصلاح الاجتماعي
والثقافي. ونلاحظ لدى كل تلك التيارات، اتفاقًا على الحاجة إلى الإصلاح،
ولكنهم يختلفون في تحديد هوية هذا الإصلاح، ومرجعيته وخطة العمل التي ينبغي
اتباعها.
الدولة السلفية
رعى
ولي العهد (الراحل) الأمير نايف بن عبدالعزيز (رحمه الله) مؤتمرًا علميًا
أقيم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مؤخرًا حول السلفية. أعلن فيه
الأمير أن الدولة السعودية هي دولة سلفية. وكما تؤكد الباحثة مضاوي
الرشيد، فإن التحول من "دولة التوحيد" إلى "الدولة السلفية" له دلالات
رمزية خطيرة؛ ففي السابق، كانت الرمزية الكبرى للنظام السعودي هي التوحيد؛
حيث وحد الملك عبدالعزيز المكان، ثم شرع في توحيد الدين، ليكون كله لله.
وكأنه بذلك يجعل توحيد المملكة، أي المكان، شرطًا سابقًا على توحيد الله.
فكيف يمكنه أن يعلم الناس أمور دينهم وهو لا سلطة له عليهم؟ وبذلك، تصبح
شرعية الحكم، أي إدارة توحيد المكان، مستمدة من توحيد الله، فلا تتم
الثانية إلا بالأولى.
وعلى الرغم من الخطاب التقليدي للمؤسسة
الدينية السلفية المعادي للديمقراطية، والذي يصور الديمقراطية على أنها
أسرع سبيل لتضييع الدين والتفريط فيه، فإن الربيع العربي طرح إشكالات عميقة
لمؤسسة الحكم. فالأحزاب الفائزة في مصر وتونس هي أحزاب تستمد شرعيتها من
الإسلام، وهم في نظر الكثيرين أبطال حرروا الإسلام من سجون الأنظمة
العلمانية ليأتوا به إلى السلطة. النظام السعودي الذي كان يروج لفكرة أن
الديمقراطية تقود إلى العلمانية وإلى ضياع الدين، يواجه الآن تحديًا خطيرًا
يتمثل في عملية ديمقراطية أتت بالإسلام للسلطة.
ولم
يعد من الممكن الاشتراك مع هذه الأنظمة الديمقراطية المسلمة في نفس
المفردات الإسلامية السابقة، ولذلك كان لابد من توجه جديد، يُبقي على كون
النظام هو نظام الله المختار. فكان هذا عبر التمييز بين أهل السلف،
المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله، ومن يتخذ من الإسلام سبيلاً للوصول إلى
السلطة؛ وبهذا تضمن السلفية استمرار دعم النظام لها، عندما تسمى بها وأعلن
أنها الهوية الرسمية للدولة.
التموضع على الخارطة
الصحويونكما
يلاحظ الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا، فإن الصحوة، والتي نحاول من خلالها
فهم السلفية، هي عبارة عن عقيدة وسياسة؛ فهي مزيج من الوهابية والفكر
الإخواني، لأنها تركز على العقيدة، متوافقة مع الوهابية، وتأخذ بالفكر
السياسي، وهذا خط التقائها بالحركة الإخوانية. وكما ذكر المستشرق الفرنسي
لاكروا فإن أهم من أثّروا في الفكر الصحوي هم: محمد قطب، وعبدالرحمن
الدوسري، ومحمد أحمد الراشد (وهو الاسم الحركي لعبدالمنعم العزي، والذي
ساعد في وضع إطار نظري للنشاط الحركي في الفكر الوهابي، عبر كتابيه:
المنطلَق والمسار). وقد حاول محمد قطب، وهو أخو سيد قطب، أن يوفق بين الفكر
الوهابي وفكر أخيه. وذلك عبر اعتباره موقف سيد قطب من الجاهلية والحاكمية
مشابهًا لموقف محمد عبدالوهاب من الجاهلية والتوحيد؛ فقد رأى أن هذين
الشيخين يلتقيان في هدفهما الأسمى وهو تحكيم ما أنزل الله، لكن قطب يسميه
الحاكمية وعبدالوهاب يسميه التوحيد.
وقذ
تبنى الصحويون مظهرًا مميزًا، كلبس الغترة بدون عقال، وتقصير الثوب دون
الكعبين، للرجال، والعباءة والقفازات للنساء. وبالإضافة للتميز الحسي، كان
هنالك تميز مكاني عبر تركيز نشاطهم في المخيمات الصحراوية مما عزز انفصالهم
المعنوي بالانفصال الحسي. لقد كانت ثورة، تغير فيها الرمز والمكان
والإنسان، وكان قادة هذه الثورة ينقسمون، كما يؤكد صاحب كتاب زمن الصحوة،
إلى قسمين: الإخوانيين (وهم أربع جماعات) والسروريين، نسبة للإخواني السوري
محمد بن سرور زين العابدين.
لكل من
هذه الجماعات مجلس شورى وقيادات بارزة، ويتردد القول بأن مناع القطان يشكّل
أصل التنظيمات التابعة للصحوة. وأولى جماعات الإخوان أسسها حمد الصليفيح،
ولذلك تم تسميتها بإخوان الصليفيح. ومن أهم أعضائها، الذين لعبوا دورًا
قياديًا ورياديًا عبدالله التركي. والثانية إخوان الفنيسان، نسبة لسعود
الفنيسان. والثالثة إخوان الزبير، نسبة لقرية الزبير في العراق والتي استقر
فيها كثير من الأسر النجدية. ومن أشهر أعضائها عبدالله العقيل وعمر الدايل
وسعد الفقيه، رئيس جمعية الإصلاح في لندن. والرابعة إخوان الحجاز. ومن أهم
روادها محمد ابن عمر زبير وعوض القرني وسعيد الغامدي. وهذه كانت جماعات
الإخوان، يلي ذلك السروريون، وأبرزهم سلمان العودة وفلاح العطري وسفر
الحوالي. وقد كان لهم صفة التنظيم وهيئته دون الإعلان عنه، لأسباب تتعلق
بالسلطة، التي لم تدرك وجوده على الوجه الصحيح.
وقد
كانت الصحوة على حال من التصادم مع السلطة على عدة مستويات، أهمها التشكيك
في أهلية الحاكم إذا حاد عن "تعاليم الإسلام" وهي بذلك تجعل الباب مفتوحًا
لتحدي السلطة. بالإضافة، يشكّك أعضاؤها بأهلية من يسمونهم بـ "علماء
السلطان" أو "القرّاء" الذين يتبعون المنهج الإرجائي، وهو تبرير كل تصرفات
الحاكم على الدوام، والتحريم الصارم لأي شكل من أشكال معارضة سلطته. لا
يوجد استقلال للمجال السياسي، بل يجب أن يكون خاضعًا للمجال الديني وتحت
إشراف علماء الدين.
السلفية التقليديةتتبنى
السلفية التقليدية خطًّا واضحًا يركز على توحيد الألوهية، ومحاربة البدع
وتعزيز الولاء للجماعة، وبالتالي لولي الأمر المتغلب. لا تنشغل هذه
المجموعة بالشأن السياسي داخليًا، وحتى عندما تهتم بأمر يتعلق بالشأن
الخارجي فهي تفعل ما يتوافق مع مواقف السلطة بشكل عام. أهم شخصيات هذه
المجموعة الشيخ عبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين وعبدالله بن منيع وصالح
اللحيدان وعبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ.
تشكّل
طاعة ولي الأمر منهجًا رئيسيًا لهذه المجموعة، وترى أن الله يضع بالسلطان
ما لايضع بالقرآن، أي بمركزية مفهوم ولي الأمر. ترى أن إعلان اتباع الكتاب
والسنة شرط وحيد لتكون الحكومة شرعية والحاكم مستحقًا للبيعة. لا يوجد لدى
هذه المجموعة مفهوم واضح للمواطنة أو الوطن، وما إذا كان يمكن أن يكون
الوطن بديلاً عن مفهوم الأمة.
وتشكّل
هذه المجموعة المؤسسة الدينية الرسمية وتفرعاتها، كهيئة كبار العلماء
ووزارة العدل واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء. وهي قريبة من السلطة،
وتتمتع بامتيازات مادية واجتماعية كبيرة جدًا تسمح لها بأن تكون اللاعب
الرئيسي على خارطة التيارات الدينية في السعودية.
الجاميةكما
ذكرنا من قبل، ترجع التسمية لمحمد أمان الجامي، وهو إثيوبي الجنسية أقام
في السعودية. لكن هنالك أسماء أخرى لها ثقل في هذه المجموعة، مثل: ربيع
المدخلي، وهو يمني الجنسية، أو علي الحلبي وهو أردني الجنسية. أهم مقولات
هذه المجموعة هو أن الإيمان هو عقيدة في القلب وأن الفعل مجرد شرط كمال.
وبذلك، فإن الحاكم الذي يحكم بقوانين وضعية، أي غير مستمدة من الدين
الإسلامي، هو أمر يمكن تفهمه والتعايش معه. وهذا مبني على أن العمل بتلك
القوانين هو مجرد فعل لا يمس العقيدة، أي أن الأنظمة السياسية العربية
القائمة هي أنظمة شرعية. الحاكم شرعي، بغضّ النظر عن أفعاله، التي قد لا
تتوافق مع الإسلام، وتجب طاعته لأنه ولي الأمر. التواجد في السلطة هو مصدر
شرعية قائم بذاته.
والجامية تيار قريب
جدًا من السلطة، ويحمل أفكاره طيف واسع من علماء الدين شبه الرسميين الذين
يتمتعون بحضور قوي في الإعلام والتعليم، لأنهم يشكّلون دعامة مهمة للنظام
السياسي. ولكنها في نظر المجموعات الأخرى هي مجموعة مرجئة، أي تبرر كل
أعمال السلطان حتى ولو كان ذلك على حساب الدين.
مجموعة أهل الحديث الألبانية تتسمى
هذه المجموعة بهذا الاسم نسبة لناصر الدين الألباني. وتتبنى نفس الموقف من
الإيمان والعقيدة، كما عند الجامية، غير أن أفرادها لا يرون الأنظمة
السياسية أنظمة شرعية. ويرون الحكام عصاة ومذنبين. لكنهم لا يدعون لتحرك أو
انتفاضة ضدهم، بل يدعون لتطوير الأنظمة القائمة لجعلها متوافقة مع تعاليم
الإسلام. وهم بذلك يعتقدون بأنهم يتبعون حديث الرسول محمد صلَّى الله عليه
وسلَّم في التمسك بالجماعة وعدم بث الفتنة والفرقة، ما دام الحكام لم
يعلنوا كفرهم بشكل لا يدع مجالاً للشك. وهم يحترمون مواقف العلماء، ولذلك
فمساحة التقليد والاتباع أكبر بشكل كبير جدًا من مساحة الاجتهاد.
تسببت
هذه المجموعة في إزعاج السلطة في مرات عديدة؛ مما دعا وزارة الداخلية
لاستبعاد الألباني من البلد، حتى تدخل المفتي في ذلك الوقت وهو الشيخ
عبدالعزيز بن باز لإعادة الألباني. وشكّلت مصدر إزعاج لأنها مهدت الطريق
لحراك شبابي ديني متحمس يسعى لإقناع السلطة بشكل مباشر بتغيير توجهاتها
لتكون، حسب منظورهم، أقرب إلى الإسلام. وقد رأت السلطة في هذا مقدمة لكسر
الحدود الفاصلة بين المجال السياسي والمجال الديني.
وفي المجمل،
يمكن القول بأن هنالك مستويين للحديث عن الخارطة السعودية: المستوى التياري
والمستوى غير التياري. على المستوى التياري، لا تزال السلفية، برغم
تشعباتها، هي الأوفر حظًا في الحضور، على الرغم من بروز تيار جديد يمكن
تسميته بالصحوية الليبرالية، وهو تمازج بين الليبرالية والصحوة. ولكن يبقى
هنالك قطاع غير تياري، يصعب حسابه على التيارات الإسلامية أو الليبرالية.
وهو متحرك وديناميكي وآخذ في النمو. قد لا يتسع المجال للحديث عنه، ولكن
لنكتفِ بالقول بأنه مجال غير تياري يتواجد على ميدان السلطة، ويمكن أن
يشكّل خطرًا وجوديًا على السلفية في السعودية. ومن المؤشرات على تصاعد
نفوذه، انحسار القدرة السلفية على التعبئة، ضد الكتّاب مثلاً، أو ضد النشاط
الحقوقي النسوي. فلو أن أحدًا غرّد عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، كما
فعل شاب يدعى حمزة كشغري قبل عدة أشهر، لو أن أحدًا فعل ذلك في منتصف
التسعينيات، لما مرت القضية كما رأينا في الأشهر القلائل الماضية. ولكن
هنالك انحسار فعلي لمكانة السلفية في السعودية. ولكن يبقى السؤال: إلى متى
سيستمر التحالف بين السلفية والسلطة؟ ستحمل لنا السنوات القادمة الكثير من
الإجابات.